من ذا يحاسب علي المسعودي وهو ينتهك جسد اللغة، ويفكك صلب الكتابة، وينقل القصة القصيرة في مجموعته القصصية "جلسة تصوير" الصادرة حديثا، من أفق اليقين الهانئ الهادي المستقر، إلى أفق الشك والتساؤل؟، من ذا الذي يحاسب علي المسعودي وهو يزعزع ثوابت ذلك الفن الذي تعودنا أن يضع أيدينا على الطريق ويهدينا إلى الحقائق؟، ومن ذا الذي يحمينا من ذلك الحرج الذي يضعنا فيه علي المسعودي ونحن نعتلي مراتب التشكيل الجمالي في قصصه، فنمسك بما أفلتته الكتابة، ونؤثث ما يحتاج إلى تأثيث، ونصل ما يحتاج إلى توصيل؟، أليس ما يكتبه المسعودي قصة صعبة متسائلة؟، ألسنا أمام مبدع يهدينا القصة القصيرة بتقنيات الرواية الجديدة؟.
كلي يقين بأن المسعودي نجح في أن يتجاوز ظواهر النص السردي المختزل، أو القصة القصيرة الحديثة، من جماليات العبارات، وحسن اختيار الألفاظ، ودقة وانسجام التراكيب وتناسقها، ليجعلنا أمام تقنيات قصصية تمثل في ذاتها مجموع ما يصدره النص الروائي الجديد، من أحاسيس ومشاعر ورؤى تعصف بنا وتؤجج حيويتنا وتوسع نظرتنا للعالم من حولنا، بل ويضعنا أمام نص قصصي يتمثل تقنيات الرواية الجديدة وهي تفجر داخلنا المشاعر المعجونة بالدهشة والرعشة والرغبة والقدرة على رؤية الجمال فيما يُحكى، والقدرة على رؤية انتصار الحياة في أحلك لحظات صرخات الموت.
ما فعله المسعودي ليس حالة من تحديث القصة القصيرة، أو حالة من التجاور بين القصة الجديدة والرواية الجديدة فحسب، بل هي حالة من الامتزاج، نقل خلالها تقنيات الرواية الجديدة إلى القصة، وهي حالة تتلمس وجودها في أكثر من اتجاه فني تجريبي، رومانسي ورمزي وواقعي وسواها، في اتساق من الفعل الدرامي والتشخيص القائم على فاعلية المشهد القصصي، بما فيه من شخصيات تعلن عن وجودها الحركي في فضاء زماني متعدد أحيانا، ومتداخل أحيانا أخرى، وفضاء مكاني مجسم، ديكورا وأزياء وإضاءة وألوانا وموسيقى، إلى غير ذلك من جملة العناصر الفنية التي تكشف عن حجم ما تختزنه ذهنية المسعودي من ثقافة وخبرة.
النسق الموسيقي
وقد لفت نظري ـ على نحو خاص ـ النسق الموسيقى الذي استخدمه المسعودي في مجموعته القصصية، وسوف نتوقف أمامه متأملين لأهميته، باعتبار الموسيقى ـ كما أعدها هيجل ـ أعلى مراتب التشكيل الجمالي للفنون، لما فيها من قيم الارتقاء التجريدي، والمخاطبة الروحية البعيدة عن التجسيد الحسي المباشر، في غاياته ودوافعه وموضوعاته، وذلك إلى جانب أنها تمثل الاستجابة الفورية للانفعال التعبيري للفنون القولية، وهي تجسد أمامنا من اللغة تكوينات تعبيرية خاصة لها أداء صوتي، كما تفعل القافية والوزن وحروف الروي في الشعر مثلا، وهي ليست قيود لغوية ـ كما يراها البعض ـ بقدر ما هي ممارسة جمالية لها أفقها الممتد إلى ما يكتنفه مفهوم الإبداع، وهو يتشكل تشكلا ذا طبيعة هارمونية منسجة.
وقد لاحظت أن القصة بوصفها رواية صغيرة لدى المسعودي، تتشكل بتقنيات تجمع بين العناصر السمعية والبصرية، حيث تبرز عناصر مثل اللون والحركة والكتلة والمساحة والانسجام والتركيب والتفكك، وهي عناصر تتجلى فيها فاعلية الضوء والظل والتكوينات التشكيلية، كما أنها عناصر تجسد الفاعلية الجمالية متعددة المصادر، لغة وفعلا دراميا وتشكيلا مشهديا مفعما بأداء لوني وإيقاعي وموسيقى وسواها، وكأنها الفن السابع الذي ابتلع وهضم وأعاد إنتاج كل الفنون في تكوين بصري وصوتي ذي هيئة فاتنة.
وبميزان التشكيل الجمالي للرواية الجديدة نجح علي المسعودي في تقديم مجموعة من القصص القصيرة تمثل محاولته ـ كما كتب لي في إهدائه ـ تصوير الإنسان من الداخل بكاميرا الكلمة والخيال، فيبدأ مجموعته الروائية ـ إن جاز التعبير ـ بقصة "الغريب المنتظر" التي يصور فيها حالة التوق داخل الإنسان المعاصر إلى العودة لجذوره وطفولته البريئة والمفقودة، في زمن لوثتنا فيه التكنولوجيا والحداثة والتقدم ومظاهر العصر الحديث، وهي المظاهر التي أماتت داخل الإنسان معنويته وبراءته وفرحه وإقباله على الحياة.
خيوط الشجن
ويغزل المسعودي بخيوط الشجن رحلة الإنسان الشقية منذ هذه اللحظة الطفولية في القصة الأولى، حتى يصل في القصة الأخيرة التي جاءت بعنوان "أفكار"، إلى تجسيد الهواجس التي يحيا بها الإنسان مع التقدم في العمر، حين تثقله المسؤوليات وتنوء أكتافه بالمهام، وتجثم على صدره الخواطر في كل لحظة يحياها، فلا يبرح أن يستكين أو تهدأ هذه الأفكار والهواجس داخل رأسه، ومن ثم تبرز القيم التعبيرية منذ اللحظة الأولى وحتى الأخيرة، من خلال ما ينسجه علي المسعودي من أنماط تشكيل الشخصيات في حضورها وحركتها وسكونها ولوعتها وحزنها وانكسارها وأفراحها القليلة، وهي جميعا لحظات ترتدي ثوبا من العناصر السردية الروائية الغنية بقيمها الإبداعية، ودلالاتها الفنية.
وتأتي قصة "جلسة تصوير" التي تحمل عنوان المجموعة، تشكيلا غنيا بالنعيم، من يقرأها لا تظمأ شفتاه، وفيها يطأ المسعودي بأقدام ثابتة أرض الأقدار، ليقدم لنا كشف حساب لرحلة الحياة، وما مضى فيها من إخفاقات ونجاحات، عبر منهج نفسي يتميز في منطلقاته ومقاصده وإجراءاته، ويدعونا إلى إعادة النظر في ثنائية الأدب والتحليل النفسي وإعادة مساءلة العلاقة بينهما، وإبراز مدى ملاءمة النقد النفسي في سبر أغوار النفس البشرية.
وتمر الحياة في لحظة شفافية لدي ذاكرة المسعودي عبر شريط سينمائي يذكره بكل التفاصيل، الصغيرة والكبيرة، في تاريخ حياته لحظة بلحظة، يتأملها بطعم الحزن وبلون الشجن، فهذه هزائمه وتلك انتصاراته، وهذا ما جبره وهذا ما كسره، وهذا ما أعزه وهذا ما أذله، وهذا قلبه الذي يخفق بأحلام الطفولة، وهذا أول حب وهذه أول قبلة وهذه أول صفعة، وهذه شروخ العمر وهذه المشاجرات العابرة، وهذه الأخرى العنيفة المنحوتة في الذاكرة، وهذه الابتسامات وتلك الدموع بمجراها ومنبعها، وهذا الضحك وذاك البكاء، إلى غير ذلك مما نمر به جميعا في حياتنا، من لحظات ومن تفاصيل، معربا عن رغبته في أن تظل تلك اللحظات حية باقية لا تغيب، كطير أخضر لم يمت، وحين مات لم يجف دمه، ليجمعها في صورة واحدة تصلح لأن توضع في جواز سفر تعبر عن إنسان عاش حياته، بطولها وعرضها، واكتشف حين وصل إلى مرحلة النضج أن الحياة ما هي إلا زيف وكذب وعبث، وتلك نتيجة حتمية لوقفته التأملية.
أسلوب زوايا النظر
ويبرع المسعودي في هذه القصة، قصة "جلسة تصوير" في انتهاك جسد اللغة، وتفكيك صلب الكتابة، مستخدما أسلوب زوايا النظر، ليقيم التباساً في عمله القصصي، مما يجعل فهم العالم وطرائق النظر إليه ملتبسة أيضاً، ولتخفيف حدة الأمر نجده يزين أسلوبه بالصور البلاغية الأخاذة التي تجعل من نصه إبداعاً جميلاً بالإضافة إلى كونه فكراً أصيلاً، فيقول على سبيل المثال: "هذه بقايا شروخ من شقاوة المراهقة"، ولو قمنا بتفكيك الجملة، واستخدمنا منهج التحليل النصي للناقد الفرنسي جان بيلمان نويل، يمكن أن تكون على النحو التالي "هذه شروخ من شقاوة المراهقة"، وهي لو جاءت هكذا ما كان هناك نقص في المعنى، لكن زيدت كلمة "بقايا" لتحمل دلالة قوية على قدرة المسعودي على التفكيك وإعادة التشكيل بصورة جمالية، كما أنها تحمل دلالة قوية على وجود جروح عميقة تحملها تلك الشروخ، أي ليست مجرد شروخ، وهنا يمتلك المسعودي الكثير من الجرأة على قلب أدوار الألفاظ.
وبمنهج بيير بيار الذي يستهدف إعادة بناء العلاقات والسخرية من الأذهان التي تستكين إلى مسلماتها، لو أننا قرأنا الجملة على نحو "هذه شروخ من المراهقة" ما كان هناك نقص في المعنى، وزيدت كلمة "شقاوة" للدلالة على طيش الشباب واندفاعهم وتعاملهم مع الحياة دون حكمة، وكان من الممكن أن تكون كلمة "فترة" بديلا لكلمة "شقاوة" لتقرأ "هذه شروخ من فترة المراهقة"، ولو كانت قد جاءت هكذا ما كان هناك خلل في المعنى، لكن أعيد بناء العلاقات في الجملة، ليحمل كلمة لفظ دلالته إلى جانب اللفظ المجاور في عملية أشبه بالنحت اللغوي الذي تصدر فيه الجملة معناها، من واقع تركيب الألفاظ إلى جوار بعضها البعض إجمالا، لينتج المعنى، فضلا عن المعنى الذي يصدره اللفظ في ذاته منفصلا.
وتكثر الأمثلة على ذلك، يقول في القصة ذاتها "هذا مجرى العيون وهذا نبعها" والدموع تعبير عن الحزن والفرح في آن، باعتبارنا أمة تبكي عند الفرح والحزن معا، وليس هناك نبع لتلك المشاعر سوى القلب، وربما يكون القصد بالنبع هو العين، لكن كلمة "نبعها" تميل بنا إلى التأكيد على وجود ذلك القلب الذي لوعته الأحداث بأفراحها وأتراحها، ويقدم صورة بلاغية بعد هذا التفكيك اللغوي لتحقيق التشكيل الجمالي والفني فيقول: "ظل مثل أخدود ينحت في نفسي تضاريسه التي تتشكل كيفما شاء"، ليدعونا إلى رؤية مشهد قصصي مجسم بالفعل الدرامي والتشخيص القائم على وجود حركي في فضاء زماني وفضاء مكاني، ديكورا وأزياء وإضاءة وألوانا وموسيقى، ويقول: "وإن غطتها ذقن النضج" وفيها دلالة على مرور العمر وظهور اللون الأبيض في الشعر، بما في ذلك من دلالة على النضج والخبرة وتجارب الحياة التي تعتصر القلب وتؤسس اليباس والتصحر في العظام والجسد.
النسيج السردي
وهكذا تسير الألفاظ والجمل والتراكيب والفقرات في القصص داخل المجموعة بطريقة يزاوج فيها المسعودي بين العلم والفن، بين النظرية والأوتوبيوجرافية، بطريقة إبداعية يمتزج فيها هي الأخرى الاندفاع والتعقل، التحقيق والتخييل، فالطريق التي تقود "المبدع \ المحلل النفساني" إلى اللاشعور، تمرّ عبر لعبة من الكلمات المترابطة التي تنسج السرد، وتتنقل بشكل مدهش من مجال إلى آخر، من المرئي إلى المجرد، من اليومي إلى النظري، من المعنوي إلى الحسي، والعكس، يقول في قصة "حداء الصفيح" التي يسجل فيها خيبة أمل "أبو مناحي" في الاستقرار والسكنى حين تزيل البلدة بيته الذي بناه من الصفيح، وأنفق عليه تحويشة العمر: "باع حلاله مكسور القلب"، ويقول: "سمع في جوفه حنينا كحنين الخلوج"، وفي قصة "ما تخفي قلوبهم"، يرسم المسعودي كيف اكتست المدينة بكل مظاهر التلوث الاخلاقي من النفاق والغش والخداع، عبر مشهد يتخيل فيه أن أرض المدينة قد امتلأت بالذئاب والضباع والثعابين والعقارب والنمور والحشرات والصراصير، إلى غير ذلك من الكائنات الضارة، التي تخرج من صدور الناس لتملأ الأسطح والبيوت والأسواق.
وفي كثير من قصص المجموعة إن لم يكن جميعها، يتجلى التزاوج بين الأدب والتحليل النفسي، ففي قصة "القائد" تتعدد أوجه الشخصيات المتناقضة والمتضاربة التى يحيا بها الإنسان في الزمن المعاصر، وتبعا لذلك تتعدد أنماط سلوكه، حيث يكون طيبا ويكون نماما ويكون مغرورا ويكون شحيحا ويكون كريما، وفي قصة "ليلة قران" نجد كيف يتشكل القدر مختلفا في حياة التوءم اللذين عاشا معا وافترقا بالموت، وترسم القصة جسد المعنى الذي يقول إن فواجع الحياة لدى البعض قد تمثل فوائد لدى البعض الآخر، تعبيرا عن المأثور العربي القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد"، وفي قصة "شخص ثالث" و"عروس الخليج" و"تهمة" و"تضاريس على الأرجح" و"ليل ربما" و"نكبر نتلوث" و"وجهة نظر"، نجد عددا من البدايات والنهايات البنائية التي تنمو فيها الوحدات السردية ـ التي ليست بالضرورة أحداثا تقع ـ نموا يقوم على السببية، وتعدد الرواة، وهذا نسق جديد للقصة القصيرة مستمد من التقنيات الحديثة للرواية الجديدة، والتي تقرر أن ظواهر الحياة ليست ممكنة التفسير، ومن ثم تنعدم في تلك الظواهر نسبة الوثوقية، ومع التعمق في تلك المظاهر وتصوير العلاقات من الداخل يتجلى النضج الفني الذي تتسم به الرواية العربية الجديدة، الأمر الذي ينقله المسعودي إلى قصص المجموعة، استجابة لجمالية اجتماعية مستجدة، ومستمدة من تأثير التراث السردي العربي والمؤثرات الأجنبية.
الوعي الجديد
والقصة الجديدة التي يكتبها المسعودي، على هذا النحو، ليست رغبة محضة للتغيير الشكلي أو البنائي، وإنما تعبير صارخ عن الوعي العربي الجديد والمشاعر العربية المحبطة, هكذا أرى الأمر بعيدا عن كونها تشكل في مجموعها سيرة ذاتية للكاتب، يسجل خلالها ما مر به في حياته من محطات ومراحل ومواقف، ومع ذلك فهي تنتسب إلى حقل الانتهاكات والتعارضات التي تسجل أمامنا رغبة في انتهاك الشكل والتعبير بصورة جديدة للعالم، صورة تختلف تماماً عن الصورة الواقعية، وفي هذه القصة الجديدة ـ بتقنياتها تلك ـ يتجاوز المسعودي الزمن الذي كُتبت فيه القصة، إلى طريقة كتابة بصيغ مغايرة تقتحم مكوّنات صيغة الكتابة القصصية السابقة، ولو أجزمنا بأن هذه المجموعة القصصية تشكل في مجموعها سيرة ذاتية للكاتب، فيصبح المسعودي بذلك أول من كتب سيرته الذاتية عبر عدد من القصص، إذ لا يزال من المألوف أن تتخذ السيرة الذاتية من البناء الفني للرواية وليس القصة القصيرة، وعاء لها.
في النماذج السابقة للقصص، وفي غيرها، يختزل المسعودي الشخصيات، ثم هو يختزل في نماذج أخرى الزمان والمكان والأحداث، ونجد خلطا أحيانا بين المستويات الزمانية، وأحيانا أخرى انعداما للزمن، وهو الأمر الذي يتكرر في تداخل وتلاحم الأماكن والشخصيات والأحداث والعناصر الأخرى في عملية القص، فقد تكون هناك قصة بلا بطل، أو قصة بلا مكان، أو قصة بلا أحداث، أو قصة بلا زمن، وقد تكون هناك قصة تضم تلك العناصر الفنية في تزاوج وتداخل، وعلى سبيل المثال تأتي قصة "الغريب المنتظر" مليئة بالأحداث، بينما ينعدم فيها المكان والزمان، وفي قصة "طريق الحرير" نجد المكان والزمان والشخصيات بتفاصيل متعددة ومتداخلة تحقق إيقاعا متسائلا، وفي قصة "القائد" يختزل المسعودي كل عناصر القصة التقليدية المعروفة ليصدر لنا نصا سرديا أقرب إلى التشكيل الشعري الذي تتحكم فيه السببية والتتابع المفكوك من الزمان والمكان، ومن ثم تتجلى شعرية السرد، وهي من أهم تقنيات السرد الجديد.
وفي قصة "سباق" يتجلى الحدث القائم على التخييل كأننا أمام كابوس، ويعود بنا إلى المدركات الحسية والمعنوية التي يمكن أن نستخرجها من التحليل النفسي للأدب، ونلاحظ أن النزوع إلى التحليل النفسي يتجه هنا للأنا وللآخر، للذات وللشخصية التخيلية في آن، وتحمل هذه القصة ـ على هذا النحو ـ دلالة فلسفية قوية لمعنى الحياة، حيث يمكن للمرء أن يحافظ على توازنه أمام تصاريف القدر، بينما هو يشاهد من حوله يتساقطون، ربما بالموت تارة أو بالفشل والإخفاق تارة أخرى، وهو يشبه القدر بالبرميل الصغير الفارغ، حيث يقف الإنسان فوقه وهو مطالب بأن يحركه ويتحكم في توازنه وهو يتحرك، ومطالب أيضا بأن يتحمل دحرجته وركضه وتحته الكثير من المطبات والمرتفعات، دون أن يسقط ودون أن ينقلب البرميل أو يغير مساره، والأمر هكذا يستلزم مهارة عالية في قيادة البرميل.
وهكذا الحياة تستلزم مهارة عالية لكي يحقق الإنسان فيها نجاحه ووجوده، فيبدو هذا الإنسان وكأنه بهلوان يرقص فوق جمر، يقول بطل القصة : "أشعر بثقة وأنا أتحرك بقدمين ماهرتين، وجسد يتقن لعبة التوازن، أبتعد كثيرا وهم بين نظرات حسرة أو إعجاب وصمت، لا تعنيني حسراتهم ولا نظرات إعجابهم، كل ما يستهويني هو الدنيا"، وفي قصة "حياة في حياة" نجد المتخيل السردي يوقعنا في فخ تأثيث ما لم يؤثث واستكمال ما لم يكتب، كما ذكرنا في البداية، فلا شئ من تفاصيل تلك الحياة المتداخلة في حياة، أي حياتين، سوى خمسة سطور تختصر العلاقة بين الرجل والمرأة، وهي العلاقة الأبدية التي تقوم عليها حياة البشر جميعا.
تقنيات سردية متطورة
وقد لجأ المسعودي ـ كما فعل الجيل الجديد من الروائيين في الألفية الثالثة ـ إلى تقنيات وأساليب سردية، تعتبر متطورة في نظر النقد المعاصر، مثل المونولوج المسرود، كما في قصة "سباق" وهو نوع أكثر حداثة من السرد القائم على ما يخبرنا به الراوي العليم داخل عملية القص، ومثل المحكي النفسي اللا تلفظي، كما في قصة "القائد"، وقصة "حياة في حياة"، وقصة "تهريب"، وفيها نجد تكسيرا بنائيا يتشكل من ذلك العنوان الذي لا يعبر عن مضمون القصة إلا من طرف خفي، ومن قصة ذلك السائق الذي يقطع المسافات بين الرياض والطائف، وما هي إلا مسافات من العمر الذي ينقضي، يحمل المسافرين، بل قل الراغبين بالسفر عن طريق التهريب، ورغم هذا فهو يودعهم بقوله : "حجا مقبولا"، ويقول : "هذه هي المرة العاشرة التي يقطع فيها الطريق الطويل بين الرياض والطائف، 800 كيلو متر من العمر تتمدد فوق الأسفلت ذهابا، و800 كيلو متر من الملل تفتت صخور الصبر إيابا".
ومثل الأسلوب الحر غير المباشر أيضا، كما في قصة "شخص ثالث" وقصة "عروس الخليج"، وفي هاتين القصتين وفي غيرهما نجد قدرة على سبر أعماق الذات بمحكي شعري بوليفوني، وبقدرة خاصة على اللعب وخلخلة تقاليد الكتابة القصصية، باستنطاقها حميمية الشخصية التخييلية، وأناها الأخرى، بطرائق لعبية جديدة، وعبر الرؤية الخلاقة التي لا يمكن إغفالها وهي تستثمر كل ما يحقق لها عالم الخصب الفني، ويمكن الإشارة إلى أن ما استخدمه المسعودي من تقنيات الرواية الجديدة هنا، يمثل مددا يمكن تلمسه في أبعاد رسم المشهد وحركية الشخصيات وإيقاعية الحدث، مونتاجا وتقطيعا وحدثا راجعا ـ فلاش باك ـ أو استباقا مشهديا.
ويذهب الناقد الانجليزي مندولا في كتابه "الزمن والرواية"، إلى أن للموسيقى دورا بارزا في السرد الحديث، لما بين الموسيقى والأدب من تشابه، فهما ينتميان إلى الفنون الزمانية، خلافا للرسم والنحت والعمارة التي تعد من الفنون المكانية، فالسرد ـ حسب رأيه ـ مثل السيمفونية، لابد لها من بداية ومنتصف ونهاية، لكن مع استخدام الموسيقى تتلاشى الحدود وتذوب بين تلك البداية والنهاية، وهو ما نجده بشكل بارز في قصص المجموعة، انظر إلى قصة "تهمة" التي تتلاشى فيها حدود الشخصيات ومعاناتهم في الحياة، وتمتزج فيها البدايات والنهايات وتذوب بفعل الموسيقى التى تتشكل عبر السطور،.
وفي قصة "الوهم ذاته بإحساس آخر" تطالعنا الموسيقى بسيمفونية تحقق هارموني بين الأمان واللا أمان، أو قل تلك الموسيقى التي تعبر عن أن الإنسان قد يكتشف أنه يفقد الأمان في اللحظة نفسها التي يثق فيها أنه يمتلكه، وفي قصة " تضاريس على الأرجح" تباغتنا الموسيقى بحالة من الأمان الذي لا يشعر به المرء إلا في حضن أمه، بينما هي غير موجودة، وتحاول الزوجة أن تقف حائلا ضد الشعور بهذه الحالة، لكن الإحساس يستمر، والرغبة تمتد، في أن يصنع الإنسان لنفسه الشعور الذي يفتقده في الحياة، كما أن الموسيقى تصدر لنا حالة من الحنين إلى الطفولة وحضن الأم والأمان والسكن، وذلك عبر مفردات من قبيل "تخاف عليك فاغفر لها" يقصد الزوجة، و"أي حنين عطر"، و"وأنت تغفو في أمان شاسع" وغيرها.
استنطاق الذات
ونقول إنه إذا كان التصور الاجتماعي الإيديولوجي قد هيمن على السرد في العقود الأولى له عربيا، فلا شك أن هناك شروطا موضوعية راهنة تفسر التوجه الجديد للسرد نحو مفهوم إنساني نفساني، يلوي عنق الأنساق الفكرية والإيديولوجيات النظرية أمام الأزمة التي يعيشها الإنسان والتي تعرفها خطابات اليقين، وأمام العجز في صناعة الأمل واليوتوبيا، بل وأمام العجر الذي تعيشه المثل السياسية، ويمكن ان نتصور أن هذا التوجه الجديد هو ما يدفع بالكتابة نحو استنطاق الذات في اتجاه لقاء الآخر، إيمانا بأن فهما أفضل للذات لا يمكن أن يتحقق إلا بلقاء الآخر، الموجود خارج هذه الذات، وذلك الآخر الموجود داخل الذات، وهنا يبدو السؤال : كيف يرى المسعودي الآخر الموجود داخل الذات في قصص المجموعة؟.
إن الأدب الحقيقي ليس هو ما يتحدث عن الآخرين، بل هو الذي يتحدث عن الآخر فينا، نرى في قصة "تضاريس على الأرجح" كيف يتجلى حضور الأم داخل ذات البطل، عبر المواقف التي تجسدها الزوجة، وفي قصة "عروس الخليج" تتجلى ذوات الآخرين المحيطين بتلك المرأة العجوز، وهم الذين يصنعون حضورها، وفي قصة "ليل ربما" يتجلى حضور الأنا في مرآة الذات، وفي قصة "نكبر نتلوث" يبدو كيف أن الذات التي بداخلنا تتلوث بفعل أحداث الزمن كلما مرت علينا السنين وكبرنا في العمر، فلا براءة ولا شفافية ولا نقاء ولا دهشة الطفولة، وفي قصة "حافة الحياة" نرى كيف تعيش الذات على حافة الحياة وسط غياب ذوات الآخرين، ويتجلى في غير ذلك من القصص نماذج لا تمثل العادي والمألوف أو المتوسط الحسابي لشريحة اجتماعية، بل تمثل التحديدات الأساسية الحسية والانفعالية والذهنية ذات الطابع الاجتماعي الإنساني، وقد نجح المسعودي في تصويرها في اللحظات التي تبلغ فيها درجة عالية من تفتح إمكاناتها الكامنة، وصولاً إلى وحدة بين السطح والجوهر.
هذا يحيلنا إلى الحديث عن الشكل، وهنا سنجد أن الطرائق الجديدة التي استخدمها المسعودي في الكتابة والتخييل، ومنها المحكي النفسي بمختلف متغيراته، والمونولوج الداخلي بمختلف أشكاله، قد واكبها شكل سردي يمثل أقوى دلالة في التعبير عن الواقع النفسي، من مضمون النص القصصي نفسه، خاصة عندما يتعلق الأمر باقتصاديات التفكيك في البناء السردي، أو باقتصاديات الحذف والصمت أو بالتضعيفات التخييلية والمحكيات القصصية، ويتضمن الشكل البنائي الجديد لبعض قصص المجموعة تنويعات تعزف لحن الزئبقية ـ إن جاز التعبير ـ فلا هي بدايات حقيقية ولا هي نهايات حقيقية ولا هي عناصر سردية نستطيع أن نمسك بها في رحلة البحث عن بناء ذي قوام مألوف، وانظر إلى قصص "طريق الحرير" و"القائد" و"حياة في حياة" و"ما تخفي قلوبهم" و"شخص ثالث" و"تهمة" و"وجهة نظر" و"سارق الفرح" و"الطرف الآخر" و"أفكار".
عجينة اللغة
لقد اتخذ الشكل القصصي توجهاً جديداً بحيث صار وعاء للتعبير عن هموم الذات، وبه لم تعد القصة ذلك الشكل القصصي السردي ذا المضمون السطحي الذي يتصيد متعة القراء وتسليتهم، بقدر ما أصبحت الشكل الأكثر توظيفاً للذاتية الفردية والجماعية، والتعبير عن قضايا الإنسان وأزماته في العصر الحديث، حتى إن غاية قراءة القصة عموماً باتت عند القارئ ملاذاً للبحث عن الذات، بحيث صار المبدع نموذجاً لعكس ذات المجتمع في مرآة إبداعه، ويزيد من جماليات الشكل جمال مفردات اللغة المختارة بعناية، واللغة الجميلة تشبه القمح الطازج الذي يُطحن، فتصنع منه المعجنات والخبز الشهي وفطائر الحلوى، وهكذا استخدم المسعودي عجينة اللغة، ليُبهرُنا وهو يُشكلها، ويُجسِّمُها، لتكون أداته الأهم في صناعة قصصه، كذلك الخيال، ذلك الضباب الصوري، الذي يجعل القارئ يتوه في أبعاد ليست لها أبعاد، ويشاهد مرئيات لا ترى، ويشعر بمشاعر لا يشعر بها الناس العاديون، الخيال هو الذي يجعل الحياة جميلة، مزركشة الألوان، شهية الروائح، عذبة النغمات، والذي بدونه تكون الحياة جافة ومقيتة ومملة.
ويرتبط الخيال في حلة واحدة بالإدهاش، وكلاهما يدفع القارئ للبحث عن تفاصيل القضايا التي تثيرها القصة، وهذا يعني أن ارتباط الخيال بالإدهاش ينجب حالة من إثارة الأسئلة، خاصة ذلك النوع من الأسئلة التي لم تكن تخطر على بال القارئ، أسئلة تورط القارئ في القضية مدار السرد، وتجعله شريكاً في الجريمة وشريكا في المتعة، وشريكاً في الذنب، وشريكاً في التفاؤل أو التشاؤم، وشريكا في الربح أو الخسارة، وشريكا في الألم أو في الأمل.
ولعلي أرتاح ـ يقينا ـ إلى القول بأن المجموعة القصصية "جلسة تصوير" تنقلنا إلى عوالم جديدة، عوالم لم نكن نعرفها، تنقلنا إلى عوالم شديدة السخونة، بينما نحن نعيش في عوالم شديدة البرودة، وإلى عوالم شديدة التطور، بينما نحن نعيش في عوالم شديدة التخلف، إلى عوالم بالغة الطهر، بينما نحن نعيش في عوالم بالغة البذاءة، أو عكس ذلك تماماً، فنجد أنفسنا قد تطهرنا من الرجس الذي نعيش فيه، أو تلوثنا في عالم مدمر بينما نحن نحرص على تحقيق البيئة النقية الجميلة، إنه عبارة عن النقل للاتجاه المعاكس.
الدراما السردية الساخرة
وقد أسعدنا المسعودي بمتعة السرد الساخر، وتتجلى السخرية التي هي ملح القصص، منذ البداية حتى النهاية، وقد اكتمل تأثيرها النفسي على القارئ مع الارتباط بنوع من الدراما السردية، مما ساهم في خلق التوتر في ذات القارئ، وكانت الدراما هي المضخة المحركة لأحداث القصص، وهي التي تشد القارئ للتقدم نحو المجهول، الذي لا يعرفه، الدراما هي قلب القصص النابض، ودافعها نحو التقدم، نحو الخاتمة التي لا يتوقعها.
لقد دخل المسعودي عالم التجريب الفكري والجمالي/ الفني، منذ أن قرر القطيعة مع السرد التقليدي الواقعي، وذلك بالارتكاز على تيمتين هما المثاقفة والتأصيل، وذلك بحكم أن السردية الحديثة كنص مميز في بنياته وفي آفاقه وفي أسسه التي يرتكن إليها، تستند إلى علاقات غير متكافئة مع ثقافة الأخر، والإشكالية الثانية تتعلق بالتأصيل، أي البحث عن الأنا من خلال الأخر بهدف خلق ذات لها هويتها المتحررة والمتجذرة تاريخيا وحضاريا، دون تجاهل الأخر المتطور عنها، لتحقق توازنا اجتماعيا وفكريا في العصر الذي تتعايش معه، ولا يخفي أثر الثقافة الغربية على المسعودي في خوضه غمار التجريب الفني، خاصة فيما يتعلق بعملية الاختراق، وربما نلاحظ أن المسعودي في هذا الاتجاه يستجيب لحتميات يفرضها الفكر العولمي، مفهوما وممارسة، ونعلم أن العالمية أو العولمية قد خلخلت هوية الأجناس السردية، وهي حالة تجعلنا نتفاعل بشكل حواري مفتوح مع النصوص السردية، دون أن تهيمن الأجناس، الواحدة على الأخرى من جانب، ومن جانب آخر، خرق سلطة النص النسق التقليدي الجاهز.
جنس أدبي مفتوح
وقد أثبت المسعودي أن القصة القصيرة ـ مثلها مثل الرواية ـ في صيرورة مستمرة وجنس أدبي مفتوح على كل الأجناس الفنية الأخرى، بحيث تستطيع توظيف تقنيات تعبيرية مستمدَّة من المسرح والسينما والتشكيل وغيرها، حتى في الوقت الذي يرى فيه النقاد أن القصة باتت مثلها مثل الرواية، تتجه إلى مزيد من التركيز على الحياة الشخصية للمؤلف، من خلال عدة ظواهر فنية جديدة منها ـ كما في الرواية الجديدة ـ التخييل الذاتي، والواقعية الجديدة، واستثمار التراث، واستخدام العجائبية (الفانتاستيك)، وإضفاء النفس الشاعري على لغة السرد.
وأخيرا لابد من النظر إلى مكوني النص القصصي الاستراتيجيين الأساسيين، البداية والنهاية، وهما كما يرى الناقد المغربي د.عبد المالك أشهبون لا يقلان أهمية عن باقي مكوّنات النص، فما قبل البداية فراغ، والبداية انتقال من الصمت إلى الحكي، وما بعد النهاية فراغ، يشكله ويلونه القارئ حسبما يشاء، فالبداية والنهاية تحتلان موقع الإطار، إذ يضعان الحدود المادية للنص، إضافة إلى استعمالاتهما المتعددة، ووظائفهما المتنوعة، ورهاناتهما الفنية التي تختلف من مبدع إلى آخر، ومن حساسية نصية إلى أخرى، ولا ننكر أن سؤال كل من البداية والنهاية يقف شامخاً أمام كل مبدع يفكِّر في وضع اللمسات الأولى أو الأخيرة في رحلته السردية الطويلة.
ولعلي أجزم أن المسعودي كان يراهن فيما اختاره من بدايات، على خلق حالة تستهدف تيسير ولوج القارئ إلى عالم نصه القصصي بما يحمله من مفاجآت، وجذب اهتمامه، وبناء عالم الخيال وإطلاق الأحداث، وإضفاء الحركية عليها، أما النهاية، ومعظمها نهايات مفتوحة، وليست خواتيم مغلقة، فقد نجح المسعودي في أن يجعلها ترضي توقعات القارئ وتلبي أفق انتظاره معرفة نهاية القصة، كما تكمن أهمية البداية والنهاية كذلك في علاقتهما الوظيفية بالعتبات وترابطهما الوثيق مع النص المركزي، الذي يسميه الدكتور أشهبون بالنص العمدة.