يملك علي المسعودي حظوظاً وأسهماً وافرة في الشعر
والقصة والنقد والإعلام.. لكن تظل القصة القصيرة غرامه الأول منذ أن أصدر مجموعته
الأولى مملكة الشمس عن دار سعاد الصباح عام 1992. وعبر ربع قرن تنوعت إصدارته لكنه
لا يمل العودة إلى القصة حيث أصدر أخيراً خامس مجموعاته جلسة تصوير. المجموعة تقع
في حوالي 130 صفحة من القطع الصغير، وتضم 29 نصاً يتراوح معظمها ما بين صفحة إلى
ثلاث صفحات. فهي نصوص تتسم بالوجازة والتكثيف، والومضة أحياناً. في قصة جلسة تصوير
التي تحمل المجموعة اسمها، نقرأ: يحمل تاريخ حياتي لحظة بلحظة..
انتصاراتي وهزائمي، ما كسرني وما جبرني، ما أعزني
وما أذلني..
مازال يخفق بأحلام الطفولة، وبأول حب، وأول صورة
فوتوغرافية، وأول صفعة، وأول قبلة. هذه بقايا شروخ من شقاوة المراهقة، مشاجرات
عابرة، وأخرى عنيفة مازالت منحوتة في ثناياه وإن غطتها ذقن النضج.
يشير عنوان القصة/ المجموعة، إلى الولع بالصورة:
تفاصليها، الماضي الذي تحسبه في داخلها، الوجوه التي تثبتها وتؤطرها إلى الأبد.
الصورة ليست مجرد لحظة تنفتح فيها العدسة وتغلق،
بل هي دلالة أيقونية على حياة كاملة لإنسان: هذه ابتسامتي التي ترفض الانصياع
لأوامر المصورين.. هذا صمتي الدائم.. وهذه جلجلتي في الضحك الصادق.. هذه تعابير
الغامضة.. التي لا تقبل الظهور بسهولة.
هذا وجهي الذي أعرفه.. وأحياناً أستنكره.
حيوات كاملة لبشر اختزلتها صورة! وفي بقية أقاصيص
المجموعة تحضر الصورة وتصدمنا في التقاطات التفاصيل، وفداحة المفارقات، مع مونتاج
سريع وقاطع، يخطف القارئ سريعاً ما بين وردية البدايات، وقتامة المآلات، وتقلبات
الزمن.
ومن أفضل نصوص المجموعة وأكثرها دلالة عل روحها،
وانغماساً في واقعها، نص حداء الصفيح قصة هذا البدوي أبو مناحي الذي قايض حريته في
الصحراء وبيت الشعر بالعمل حارساً يحيا في أحد بيوت الصفيح..وفي ضربات قدرية سريعة
ينتهي به الأمر وحيداً في العراء بلا مأوى ولا وظيفة.
وعندما اقترب من مشارف الحي.. كان صوت الجرافات
وهي تهدم بيته تملأ الفضاء، قررت الدولة أن تنهي بيوت الصفيح التي لا تليق بدولة
مدنية..لذلك خصصنا بيوتاً حديثة سينتقل إليها أصحاب الوظائف الحكومية!
سمع في جوفه حنيناً كحنين الخلوج! (صوت تصدره
الناقة عندما تفقد وليدها)
نص رائع يثير الأسى، ويرصد بشفافية وخفة، نموذجاً
لمن دفعوا ثمن التحولات المتلاحقة والسريعة، من البداوة إلى الدولة المدنية.
كما يتباين في النصوص صوت السارد، من وضع المراقب
الذي يرى حيوات الآخرين، وصوت الذات عندما ترى تحولاتها هي نفسها، ومحاولات دؤوب
لاستعادة الطفولة: ذلك الفردوس المفقود. نمْ.. ولا تسمع لزوجتك. ابحث عن أمك
وطفولتك في تضاريس العباءة.. ولا تجبها
الطفولة حاضرة علناً وإضماراً، في نصوص كثيرة،
فما مالت نصوص أخرى إلى النقد السياسي والاجتماعي، والاقتصادي، وإن بالترميز
المبهم أحياناً، كما في نصوص: الوهم ذاته.. بإحساس آخر، طريق الحرير.
وأحياناً تبدو الرمزية مكشوفة ومباشرة نسبياً حتى
من العنونة مثل: نكبر نتلوث، القائد، تهمة. وبعضها جاء بمثابة تعليق على التغيرات
الاجتماعية التي أحدثتها ثورة التنكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي مثل قصة شخص
ثالث هو في الحقيقة الهاتف الذي لا يفارق قلب وعقل صاحبه، بينما زوجته تطالعه
وتنتظر منه أي اهتمام! ومن سمات المجموعة التناص وتمرير بعض الإشارات إلى نصوص أو
كتاب عالميين، أبرزها التناص مع قصة ليلة قران المبنية على نص أخي للإسباني رافييل
نوبوا.