." إنَّ اللغة الشعريّة لها سحرُها الّذي تمارسهُ على النصّ
القصّصي " – باختين !!
. لغة ُ الشعر تبعثُ في النصّ القصّصي نافورة مِنَ الدِلالاتِ ، يفكّ شيفراتِها دمعُ الذاتِ المهمومة ، ليصبحَ صراخها الضروريّ لغة ً بعدَ اللغةِ ، ويضحي الخيالُ واقعا ً مُركزاً ، وعبرَ (لذة النصّ ) الباذخة ، يستنشقُ القاريءُ – الذي يضبط ُنبضَ قلبهِ على إيقاع الكلماتِ – عبيرَها قصّة ً بكيمياءِ القصيدة ، وهي ليسَتْ جنيناً شعرياً أبداً ، إنما لغتُها توحي بالكثير ، وتَعِدُ بالكثير ، فالراوي – من خلال قريحة القاص علي المسعودي – أرادَ أنْ يرسمَ بورتريهاً للذات المنسحقة المتهدمة التي تعيشُ حياة ً تشكو مِنَ الحياةِ ، وتحتَ أنيابِ زمنٍ شرسٍ ، غدت (الذات مُجرّدِ أثرٍ مِن آثار اللغةِ ) – كما يُنظّرُ رولان بارت ، وعبرَ فضاءِ اللغةِ سكنهُ الدافيء الآمن ، وإيحائها التعبيري الجماليّ ، يعبرُ بنا الكاتبُ إلى ما وراءَ الذاتِ أيضاً :
" نفسي هي الهموم .. وحاملة الهموم !
أينَ أهربُ منَ العيون التي تترصدني : عيون الناس ، عيوني ، عيون الشجر ، عيون البنايات ، عيون الشارع ، وهاتان العينانِ المضيئتان اللتانِ تقتربانِ ، تركزانِ على جسدي ، وتنقضان عليه بلهفةٍ مجنونة "-قصّة (حافة الحياة) –ص18.
." ذاكرة الجدران" القصّة ُ – الحُلم !!
حينَ يسنُ الكاتبُ أرضَ الأحلامِ ، وبفعلِ تضاريسها ، وهيَ بلونِ الروحِ ، وجغرافيتها وهيَ بمساحةِ الجسدِ المنهكِ ، يلتقط ُ الكلماتِ ، بلْ ويمسكُ بها بكلّ رقةٍ وحنانٍ ونبوءةٍ ، كما يمسكُ جناحي فراشةٍ مُرفرفة ، وهيَ تفيضُ بأنهارِ رؤاه .. الحُلمُ هذهِ المرة متلوّ بيقظةٍ مُفزعةٍ ، المكانُ بطلا ً ، والراوي يصبحُ زمانهُ مكاناً ، جغرافيتهُ العسيرة ُ كلّ الذاكرة .. حُلمٌ منتسبٌ لليلٍ طويلٍ ، يحرّكُ المفاصل المعطلة في جسدِ الراوي ، وينتشلهُ تماما ً من مياه النسيان ، يصبحُ المكان وهو ( أصلُ ولادةِ الأشياء) – كما يقولُ غاستون باشلار ، إنساناً – كائناً نابضاً بدمِ الحنين ، وحرارة الشوق ، يُؤنسنُ الكاتبُ المكان عبرَ ذبذبةِ الحُلمِ ، فتأتي الكلماتُ مُوحية ً مُعبّرة ً ، تتوّجها لذة ٌ – هي جوهرُ الجمال في النصّ ، كما يقولُ جورج سانتيانا : (تركتُ هنا : ذاكرة .. وبوصلة .. وقلباً يرتجف) – 22.
.قصة " عن قرب" بورتريه مُتقنٌ آخرُ ، مهارة ُ أصابعٍ موقوتٌ نبضها على المُثير ، دقيقٌ في تداخلِ ألوانهِ وخطوطهِ ، مُنغّمٌ في إيقاعاتهِ وموجاتِ أفكاره وصورهِ ، شعريّ ومريحٌ في خيالهِ ، نسيجٌ مُتعدّدُ القراءات ، مِنَ القصّة القصيرة إلى القصّيرة جدّاً ، وعبرَ ( فتنة الحكي) كما يسمّيها رولان بارت ، ينتقلُ الكاتبُ بذكاءٍ وخبرةٍ ، يسعفهُ في بحارِ مغامرتهِ ، زورقُ اللغةِ الشعرية البرقية ، شديدة الاقتصاد والكثافة ، وخيال ابتكاري مُنتج ، لتأخذ القصّة القصيرة جدّاً لديه ، تقنية القصيدة – الومضة ، وبخيالها الباذخ تُقرَأ كلوحةٍ تشكيلية أيضاً ، وتلك شروط وملامح ( القصّة – الومضة) ، ليبدو الإبداعُ كائناً حربائياً ، تتداخلُ الفنون في كيميائها ، ويصبحُ للقصّة ( سلطة الاحتواء) .. احتواء كلّ الفنون التي تسبحُ ككوبٍ مضيء في فضاء هذا الفنّ .. ولا يجدُ هذا الفنَ غضاضة ً من استلاف دمعةٍ .. قطرةِ مطرٍ .. دفقةِ ضوءٍ من كلّ فنٍ .. وهكذا يُمكنُ أنْ يجدَ القاريء نفسَهُ في أقصى درجاتِ الحرية ، ليقرأ (القصّة – القصيدة ) و( القصيدة – اللوحة) و( الرواية – الأوبرا) ، بكلّ لذةٍ ومتعةٍ : ( هذا مجرى الدموع وهذا نبعها .. ظلّ مثل أخدودٍ ينحتُ في نفسي تضاريسه التي يُريدها أنْ تتشكّلَ كيفما يشاء) – ص26.
. و " طفل ضائع .. وأكثر من امرأة"نصٌّ ذو كونٍ مفتوح !! أدواتُ القصيدة ، كونها ، لغتها ، حُلمها ، عاطفتها ، مداهماتها الجمالية السلمية ، لكنّها قصّة مُوجعة ، ماضية في سرِّها وتقنيتها الحكائية ، اختصرت كلّ تقنيات السردِ النثري الخرافي ، لتصدّعَ جدران الذاكرة ، وتعيدَ بنائها ( كالسهم ِ في الهدف) – كما يُعبّرُ ماركيز!
حالة ٌ إنسانية ٌ بالغة الرقّةِ والشفّافية ، حينَ تحكمُ العاطفة ، التي لا تأجيل لمحكمتها ، وهي تنعقدُ تحتَ ضوءِ الشمس ، وعطرِ النّهار ، حينَ يتوحدُ المحبُّ بالحبيبِ في لحظةٍ صوفيةٍ ، كتمرينٍ روحي على فرحٍ مُؤجّلٍ ، تأخذ المرأة ُ شكلَ الشجرةِ أو الأرض ، وكلهم يفيضون بأنوثةٍ طاغيةٍ ، تلوّنُ المكان ، و( المكانُ الذي لا يُؤنثُ لا يُعوّلُ عليهِ) – برؤيا الفيلسوف ابن عربي .. والقلبُ بلا عشق مُجرّد آلةٍ تضخّ الدماء ، مهدّدة بالذبول والصدأ ، والإنسانُ بلا حبّ ، وبلا ظلّ امرأة ، أو خصلة امرأة ، أو ضحكة هي وضوؤه ، لا يستطيعُ عبور الصحراء ليلاً ، ويظل خارجَ الزمن .. وخارج التاريخ .. وهو لا أحد !!
تماهتِ هنا القصّة القصيرة والقصيدة في لغةٍ موحيةٍ مُقتصدة ، ثمرة ثقافةٍ هادئة ، ونزيفِ أصابعٍ حادٍّ ، من دون أن يصدرَ من الكاتبِ – القاص أي حنينٍ لإيقاعٍ ( خليليّ ): ( حُجرات قلبي خاوية ، تصفرُ فيها الريحُ ، تصفقُ أبوابها ونوافذهابحاجبين مقطبين ، هواء جاف لاهب يُدولبُ الأوراق المتناثرة في جهاتِ الحُجرات ، ويُطوّحُ الغبار إلى رئتي)- 28.
. في قصّة: " لعبة الكراسي " نقلة نوعية في الأسلوب السّردي ..!!
وهوَ يتراوحُ بينَ الواقعي المُريح والرشيق في جملهِ ومفرداتهِ ، وبينَ الشعريّ الشفّاف إلى المُتخيّلِ المُستفِز ، عبرَ استرجاعِ ذاكرةٍ دقيقٍ ومنظمٍ ، في لغةٍ سرياليةٍ ، شديدة الإيحاء والإثارة ، حيث يصبحُ للجمادِ لغة ً .. ضجيجاً .. وفعلاً صاخباً ، وكأنَّ ( العالم ليسَ سوى مجاز) – كنا يقول هاروكي موراكامي و( كلّ شيءٍ محض استعار) – بتعبير جوته أيضاً .. !
وسواء بدتِ الأشياءُ ( مجازاً ) أو ( استعارة) ، فأنّ لها دورها في تجديدِ نسيجِ الذاكرة ، ويجنبها عواصف النسيان .." لعبة الكراسي" القصّة – اللوحة ، تذكّرُ كثيراً بفوضى وعبث ، وغرائبية التشكيليّ السريالي سلفادور دالي ، إذ بينَ الرسمِ والكلماتِ حبرٌ مشاغبٌ ، وكيمياء تشكيل تظل القاسم َ المشترك بينَ الكلمةِ واللونِ ، سرّ القلمِ والفرشاة ، وإيقاع القريحة والمُخيلة :
" – كرسي :
لمْ يأمنوا أحداً ، فيديروا لهُ ظهورهم سواي !
-كرسي :
لي أربعة أرجل .. ولوْ أنَّ لي اثنتين لمشيت !
-كرسي فوقه فتاة :
آهِ .. لوْ أنَّ لي ذراعين !
-كرسي مُعاق :
حركتي ليسَت ركضاً ، ليسَتْ مشياً ، ليسَتْ خطواً " – ص32.
." إنَّ الحكومة الوحيدة الباقية على قيدِ الحياة هيَ الحُبّ " – بيتر لامبورن ويلسون !
وقصّة " حرارة مشاعر.. برودة نوايا" حُبٌّ بمذاقِ التديّن ، و( حبُّ النساءِ في نظري دائماً عبادة تطهّرُ النفس" – كما يقولُ هرمان هسِّه .. قصّة إيقاعها الحكائيّ الجماليّ يرتفع كثيراً بهواجس الحبّ والعشق والهيام ، تلتقي فيه القصة والقصيدة على إيقاع الحكاية وهيَ الأهمّ – شريان النثر السرديّ ، وهو ينتهجُ في أبجديته سحرَ الكلماتِ : ( مَنْ قالَ إنَّ تحطيمَ الساعاتِ لا يُوقفُ الزمن ، ها هوَ زمني يتوقفُ عندَ أصابعِ قدميك ، عندَ أول قطرة ماءٍ تتدفقُ مِن فمك) – ص50. تحضرُ القصيدة ُ أيضاً ، بكلّ كيميائها في هذا التفجير اللغوي ، وسحر التضاد بين مفرداتٍ توحي بالكثير : ( تعلمتُ منكِ جمالياتِ الفراق ، فتعالي أعلّمكِ مفاتن اللقاء) – ص 51. .. وعبرَ مهارة التكنيك في السردِ ، وأطياف القصيدة اللازوردية تتجسّدُ حالة الحُبّ التي يعيشها الراوي في إيقاعٍ درامي مُثير ..!!
." سيّد الكلب " قصّة – القصّة !! ( لأقصى لذةٍ ممكنة ) ..!!
كلّ كلمةٍ تندلقُ من قريحةِ الكاتبِ ، تبدو مرئيّة بالنسبةِ للقاريء ، قوّة ذاكرة فوتوغرافية شديدة الالتقاط ، متوّجة بحسٍّ مُرهفٍ ، ثمرتُها ( القصّة – البورتريه) فـ" المخبولة" – المكان ، وهو يبدو خارجَ الزمن ، تجسّدهُ أصابعُ الكاتب بشكلهِ الكاريكاتيري ، واللون المُضحك – المبكي ، الساخر – الجاد . أمّا البورتريه الآخر ، المرسوم بعنايةٍ ، ودرايةٍ ، وخبرةٍ ، ورماد أصابع لـ" الكلب" و" الحارس" و" الأمريكي" صاحب الكلب ، فهو بقدر ما فيه من سُخريةٍ مرةٍ وألمٍ ، .. وبقدرِ ما فيه من توثيقٍ مضنٍ لصورةٍ مُستفِزّة للمكان ، وإنسان المكان ، فيه بركانُ تمرّدٍ وثورةٍ ، يثيرهُ ويُفجّرهُ جمرُ السخرية الذي لا ينتهي إلى رمادٍ ونسيان ، الموصول بالألوان الفاضحة للمكان المُستَلَب الذي يصبحُ صمتهُ السرياليّ صوتاً ،يفوق في بلاغتهِ كلّ فنون الكلام .. وقدْ أفلحَ الكاتبُ – القاص كثيراً في رؤاهُ ، وهي بعطرِ النهار ، حينَ جعلَ لـ"المخبولة" – المكان قدمين فولاذيتين ، وتضاريس صعبة ، وللناسِ سورة غضبٍ ، جعلت ( الكلب) وصاحبه ( الأمريكي) – الوجود الطاريء ، يجتمعانِ في (عواءٍ) واحدٍ ، ويرحلانِ خارجَ المكان !! : ( معَ أنَّ البعض كانَ يُؤكّدُ أنّهُ رأى ذلكَ الأمريكيّ ، فوق سطح مجمعهِ السكني يعوي كما يفعلُ كلبهُ .. بينما قالَ بعض آخرُ، إنّهم شاهدوهُ مرة ً يتجولُ وكلبهُ وحارسهُ في مدينةٍ مجاورة) – ص61.
." أحاديثُ المكان" قصّص قصيرة جدّاً .. تكتبُ نفسَها بنفسِها !!
حبرُها دمعُ المكان ، وموطنُ الجمال ( سحر الحكي) ، وهو ترجمة لحُلمِ المكانِ ، وخطى إنسانهِ ، وهو بإيقاعِ صباحٍ جسورٍ ، بجيشٍ من الفراشاتِ والأطيار والندى ، يدوسُ كلّ ظلمةٍ تعيشُ بسمّ أفعى ، بأبجديةِ الثورةِ على مَنْ يٌطوّبون الأرضَ والمكانَ بأسمائهم و( يمتلكونَ مفتاحَ كلّ شيءٍ) ، وبزهرةِ الطموحِ والحلمِ الآسر ، وهي تفوحُ بعطرها ، تصبحُ الفوضى الضرورية أملاً ، عالماً ، مكاناً جديداً ،فـ" المقهى" في القصّة القصيرة جداً " تجديد" ، ليسَ عنوان المكان فحسب ، بلْ هي الجديد والتغيير الظاميء إليه المكان أبداً :
( يشعرُ صاحبُ المقهى بزهوٍ كبيرٍ ، وهو يرتكنُ إلى إحدى الزوايا في مقعدهِ الخاص ، يرقبُ عُمّالهُ ، وهو يعملونَ بحيويةٍ أكثر) – ص88.
القصّصُ القصيرة جدّاً في " أحاديث المكان" لوحاتٌ تشكيلية طبيعيّة !!
وهي ظلُّ المكان ، ورؤى إنسانهِ وهو يعيشُ المفارقاتِ ، ويقاومُ المتناقضاتِ ، من حُبٍّ مُصادرٍ إلى امتهانٍ مقصودٍ ، إلى فرحٍ مؤجّلٍ ، ولا مُبالاة جاهلة .. كلّ ذلكَ جاءَ بألوان وخطوط وريشة كاتبٍ – رسّامٍ ماهرٍ .. أليسَ الكلماتُ رسماً ناطقاً ؟
: ( بشعة ٌ كلّ شيءٍ فيها مُترهل ، فجأة ً تقذفُ بنفسها لتجلسَ ، فتبدو زوائد كثيرة على جانبيّ المقعدِ الذي ترسلُ زواياهُ صريرياً حادّا مع كلّ حركةٍ) – قصة ( السيدة الزوجة) – ص90.
. القاص ( علي المسعودي) في ( ذاكرة الجدران)* يكتبُ ويرسمُ !!
يعثرُ على " فرشاته" و" كلماته" في الأحلام !! يكتبُ بمشاعرَ وأحاسيس الكاتبِ المُتميّز ، ويرسمُ وهو يستعيرُ أخيلة وأصابعَ الرسامِ الأكثر مهارة ً .. أداتهُ الكلماتُ والألوان ، باحثاً ومنقّباً عن الجوهر الدرامي فيما يكتبُ !! يكتبُ ليُبهرَ ويجذبَ !!تتداخلُ وتتعاشقُ الفنون في نصّهِ السرديّ المُثير الذي يمتلكُ " سلطة الاحتواء" بامتيازٍ !! .. وتلكَ هي ملامحُ الكاتبِ المجرّبِ المثابرِ ، وشروط الكتابةِ الجادة الّتي تُظهرُ كلّ حرفٍ ، وكلمةٍ ، وجملةٍ ضربة ً في القلبِ ، ولا يُمكنُ أنْ تُقرَأ إلاّ بالقلبِ والعينِ معاً ، وتُدركُ بتفاصيل الجسدِ كلّه !!
الكاتبُ – القاص علي المسعودي يا تُرى أينَ موقعهُ في خريطة الجمال ؟
أهوَ يكتبُ قصّة ً أمْ قصيدة ً ؟ أمْ يرسمُ لوحة ً تشكيلية ً ؟ أمْ يعزفُ أوركسترا ؟
والإجابة ُ ليسَتْ عسيرة ً على مَنْ يمتلك ذاكرة ً بلونِ الفرحِ الصوفيّ !! فالشاعرية العالية ، حيثُ البناء المعماريّ القصّصي المُتقن، وإسمنتهُ الكثافة والاقتصاد في الكلمات ، والمهارة في التكنيك ، والقدرة على التشكّلِ والتنوعِ ، والخيال الطازج ، كلّ ذلك لهُ دورٌ في صنع أسلوبٍ مميزٍ ، تتنوعُ نصوصه ، وتُقرأ ُ من دونِ ملّلٍ .. كلُّ كلمةٍ فيها تقولُ كلَّ شيءٍ .. عن كلِّ شيءٍ !!