. " السيرة الذاتية : حكي استعاري نثري يقومُ بهِ شخصٌ واقعي عن وجودهِ الخاص ، عندما يركزُ أساساً على حياتهِ الفردية ، ولا سيما على تاريخ شخصيته " – فيليب لوجون .
. " فعلُ الكتابةِ يصبُّ في ما هوَ ذاتي صرف" – إيزكا سارتوري.
" مذكرات طالب حلم " نصٌّ مرجعي .. كتابة في الحُلم .. وفي أبجية سردية بارعة ، لايتخلى فسفور حروفها عن بريق الحُلم ، وهو برؤى علماء الآجتماع " واقع فردي اجتماعي" .. نزيف ذاكرة بمناعةٍ باذخةٍ ضدّ النسيان .. وتحت ميكروسكوب المعاناة ، وأمطار الهموم الحياتية والمجتمعية ، وسيلة تخفٍ مدروسٍ ، ربما لأنَّ " الحلمَ ينفلتُ من قبضة الرقابة"– حسب فرويد .
" مذكرات طالب حلم" – ميثاق سير ذاتي بتعبير فيليب لوجون .. كتابة مانحة وماتعة ، ترتفع بكبرياء الروح تارة ً ، وجارحة تارةً أخرى .. سيرة ذاتية " تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية" .. وغيرية معاً ، حين تتماهى الذات الكاتبة مع المكان – الوطن ، والزمان في لحظة سطوٍ سلميّ على تقنيات السرد - السير ذاتي ، والكاتب – الناص– الراوي وهو في حُمّى بوحٍ مضنٍ ، لايبدو غير شخصية استثنائية ، لاتقبل التعريف خارج القاموس اللغوي الصادم لهذا البوح .. بل بوح البوح لشخصية رئيسة " تحيل في نهاية المطاف إلى اسم المؤلف على الغلاف" – حسب لوجون أيضاً، على شاشة المعاناة بكل ألوان الطيف ، وغزو تتريّ لهموم هي الأخرى تأخذ أشكالاً مرهقة ، ومبعثرة لكنوز الروح والجسد ، من دون التخلي عن الصدق والبراءة وألم الحديث: " وهكذا سنوات العمر مضت ، وتساقطت مثل نشارات الخشب .. وقد مضى معها فجأةً .. كأنما غفا واستيقظ " – ص11.
." مذكرات طالب حلم " ( ميثاق مرجعي) .. نوع من الكتابة التأمّلية الحالمة ، وهي رأس مال بالغ الأهمية للكاتب والكتابة معاً .. الكتابة – الحياة .. الكتابة – الحلم ، وهي شكلٌ من أشكال التعبير الإنسانيّ الأخرى مثل أحلام اليقظة تماماً .. كتابة شجاعة لاتعبأ بأي قانون أو دستور مجتمعي ، بمثابة الخروج على بيت الطاعة .. محاولة جادة ومضنية في الآن لإصلاح أعطابِ الواقع و الوجودِ .. ومعالجة مفارقات الحياة عبر الحلم – الحدس – اليقظة ، وسفائنهُ تبحرُ متحدية أمواج الواقع المعيش المباشر القاسي :
" كيف هرب في غفلةٍ .. وتوارى خلف سرابٍ يظنهُ حقلَ برتقالٍ ؟ هل كان وهماً .. أمْ أنَّ الدنيا بأسرها هي شكلٌ من أشكال الوهم؟" – ص12.
." مذكرات طالب حلم " حياةٌ في الحلم .. وعيشٌ في الحلم .. وكتابةٌ في الحلم ! يقولُ عالم الاجتماع برنار لاهير : " يجسّد الحلم مخاوف وجودية ، تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة عن تلك التي تأخذها في الأوقات المتنوعة اجتماعياً في حالة اليقظة " .. وكل ذلك مصدرُ الإجابة الوحيدة ، نضج أسئلةٍ عمياء ، بدت وشماً في الروح وطريقاً مفضياً أحياناً إلى استراحة وهمية.. محاولة الكاتب بناء حياته ، مانحاً إيّاها معنىً من المعاني :
" لم نرَ قطار العمر وهو يمرّ لفرط سرعتهِ ، سمعنا صوته فقط .. وصوت مايكرفون الكابينه .. شكراً لكم ، هذه هي المحطة الأخيرة في رحلة القطار" – ص13.
." إنّنا مرتبطون بالماضي المشكّل لهويتنا "- تزفتان تودروف!
وكلّ أبجديات الفكر والفلسفة والسرد والكتابة تقولُ : إنَّ الإنسانَ ماضيه !!
فهل سكن الكاتب علي المسعودي في الماضي ابتغاء عبور سليم آمن إلى الآتي لبناء حياته ، أمْ أنَّ الماضي هو الذي سكن فيه ، وأدار دفة سفينته ، وهي في بحر واقعٍ متلاطم وضبابي الأمواج ؟ وحسب الشاعر الرقيق والس ستيفنز فأنَّ " الإنسان لايستطيع أنْ يتخلصَ من ماضيه ، ويودعهُ على الرف" :
" هل نذهب إلى الماضي .. أمْ يأتي إلينا ؟
من أينَ تتسلل إلينا الذكريات فتجرحنا ؟ سُددت كلّ منافذ العائدين من الغياب على خطوط الحنين الجوية .. ومازالت هناك مساربُ منها سيل الألم .. مَن خرق الذاكرة ليغرق بها أهلها ؟" – ص13.
والماضي يكتبُ نفسَه ُعلى صفحات الروح بحبر الألم : " المجد الوحيد الذي يجبُ أن نتزود منه " – حسب تعبير بودلير .. ولا يبدو عبر فقهِ الكلام – السير ذاتي ، والميثاق المرجعي ، غير موقف تراجيدي :
" سأكتبها رواية ..!!
لا ، بل اجعلها سيرة .. اكتبها ما تُحبّ .. لا يهم " – ص16.
الكاتب الكبير – علي المسعودي في كتابهِ " مذكرات طالب حُلم" يكتبُ ذاته .. يُؤرّخ لحياته ، وهو ساردٌ من طراز رفيع .. كتابة بوعي ، ومسؤولية مرعبة ، خليط بديع من الشعر والنثر الفني الرفيع ، المتماهي بتقنية القصة القصيرة والرواية والنقد والذكريات والنداعيات ، من دون أنْ يهدرَ جمال ورقة التعبير إذ أنَّ : " أي تعبير يعملُ بمعزلٍ عن الشكل الجمالي ، تعبيرٌ مبتذلٌ " – حسب شذرات فكر بريخت .
. " مذكرات طالب حُلم " حكي نثري جاذب ، منقول ببراعة الكاتب من ( مكتوب) و( منطوق) إلى ( بصري) .. مشاهد مرئية ناطقة بثمالةِ حياةٍ ، وصورة فوتوغرافية لزمنٍ فردي – جماعي في الآن .. بوح الذات المتشظية والمبعثرة ، وقد بدا الحلمُ بموجبها حكاياتٍ مصورةً على شاشة اليقظة العسيرة ، كثيرة الشبه بصورة الأبيض والأسود ، لاتخلو من دهشةٍ ومتعةٍ وغرابةٍ معاً . كتبت جوليا كاميرون تقول :
" لكي نبدع ، فأننا نستخلص ما في آبارنا الداخلية ، .. فهذه البئر الداخلية خزان فني".
والبئر الداخلية للكاتب – علي المسعودي ليست خزاناً فنياً مثالياً فحسب ، بل وليمة أحاسيس :
" لكن الوقائع التي حفرت في النفس الأخاديد ، لايمكن أن تكون قابلة للتبخّر ..
هو ليس أنا .. سأتحدث عنه باعتباره ( أنا) ، لكنه ينكرني أحياناً ، ويجبرني على أن أتحدث باعتارهِ ( هو) وليس ( أنا) .. " – ص17.
. علي المسعودي يكتبُ وفي " مذكرات طالب حُلم " فأنَّ الكلماتُ هي جسدهُ .. واللغة سكنهُ الحالم ، وحياتهُ الشخصية موضوعهُ الأسمى ،و" الكتابة تكشفُ عن جذورنا الأكثر غوراً" – كما يرى لوران غسبار .. والمعاناة أفضل مساعد في إنجاز الكتابة عن الذات – السيرة ، وقد نغّمت مفرداتها وجملها أخيلة السرد في جمالياته ، وعناصر كيميائه ، ليشعر القاريء أنَّ هناك مسافة بين المقال والسرد بنوعيه القصة القصيرة والرواية .. تقنية بدأت عند بورخيس في ( الحكايات) ولن تنتهي عند كاتبنا علي المسعودي في بوحهِ .. أسئلة ذاته ، وإجابتها تفيض بالبساطة والوضوح .. شروط مَن يعمل على سكب الذات في عملٍ إبداعي .. أقرب إلى تأوهات نيتشة :
" آهِ يا نفسي .. لقد علمتكِ أن تقولي اليوم ، لقد غسلتك من الاحتشام ، وعلمتك أن تنتحبي عاريةً تحت عيون الشمس" ..!!
ورغيف المعاناة ، وتلذّذ علي المسعودي بطعمهِ وسخونتهِ ، بدايةُ حياةٍ شاقةٍ ، تشكو من الحياة ، وقد بدت وسيلة مقاومة ودفاع مستميت عن الوجود :
" أذاكر على ضوء سراج يُضاء بفتيلةٍ منقوعةٍ بالكيروسين ، أشمّ رائحة انطفائها ، كلما استعدت ذكراها" – ص24.
." مذكرات طالب حُلم" لحظات إحساسٍ عالٍ بالزمن ، كظاهرة في الحياة ، يصعبُ هزيمتها و برؤى الفلاسفة ، شديدة التعقيد ، وحسب م. و. موسكاتو في كتابهِ ( نسق الزمن) فأنَّ " الإحساس بالزمن يجري على مستوى انفعالي " .. والذات – الكاتبة والكتاب معاً ، في سيلِ حروفٍ بركانيّ ، تقولُ ذلك أيضاً : "اكتشفت أنَّ أكثر ما يخيفني هو الزمن" – ص31.
وعلاقة الكاتب - الناص بالزمن علاقة سيكولوجية محضة ، والزمن بفقهِ الكتابة والسرد، مفهوم واعتقاد بشري " تجربة ذاتية" – حسب إيفرات ليفني .. لحظة صراع الماضي والحاضر في " مذكرات طالب حُلم" .. الماضي الذي يعني المحافظة والعفة حسب قواميس الآباء والأجداد ، والحاضر الذي يعني الحرية والتفرد والتميز ، وفقَ الإيقاع الحضاري الزاحف لامحالة . في كتابه ( نظام الزمن) يقولُ كارلوفيلي : " إنّنا ما كنّا لنحسّ بمرور الزمن ، وما كنّا لنعرف مَنْ نحنُ ، لوْ لم يكنْ لنا ماضٍ ، ولو لمْ يكن يبدو لنا تسلسل الأحداث كضرورة حتمية" :
" صرخ الأب وهو يرفض اقتراح زوجته بإرسال بناتها إلى المدرسة .. ألمْ تسمعي عن ( مريم) قد نالها الفساد وهي ابنة أكارم .. يتكلمون أنها أصبحت تقلّد معلمتها في الرقص الشرقي" – ص38.
." مذكرات طالب حُلم" .. الواقع المعيش مصدرُ الإلهام !!
وحسب ( الميثاق المرجعي) ، فأنَّ المؤلف – الشخصية الرئيسة – الراوي و" ما يحكيه عن ذاته ينبغي أنْ يكونَ حقيقياً" – كما يقول فيليب لوجون .. وشرط لازم في الحكي النثري السير – ذاتي ( الصدق المستحيل) .. وابن أكواخ الصفيح ، وشعلة الكيروسين ، لا تعريفَ لديه للكذبِ والمراوغةِ ، كل خطوة فوق تربة وجودهِ ، ودهاليز حياته المعتمة ممهورة بتوقيع الصدق .. مواطنٌ من الدرجة العاشرة أو المئة ، لم يذق فاكهة المفاجأة والدهشة ، ولم يسبق له أن احتفل في عيد ميلاد الفرح ، بل ليس مهنته الفرح المستحيل التي تمكنه من صنع حياة الحياة :
" ولمْ يكنْ ينغصّ عليّ فرحة تفوقي إلاّ ضرورة الاحتفال بهِ ..وطوال عمري .. فشلت في طريقة الاحتفال بالفرح" – ص41.
الذات المتشظية تعالجُ بعثرة ذاتها ، بشكلٍ من أشكال الحُلمِ ، وهو القراءة – الحُلم المتلوّ بيقظة ، والخيال الباذخ ، رغيف الكائن القلِق الباحث عن ذاتهِ في تنور الكلمات ، و وتتابع الجمل الرشيقة ، وعطر المجاز .. وضالتهُ في القصص والحكايات المنتزعة من لحم الواقع ، وهي تمسرحُ الحياة ، وتنغمُ الكون ، كانت البداية مع الإيحاء ، وجنون السرد ، ولعبة الكلمات ، والمغامرة في بحار المجاز ، والطرب باللهو بالاستعارات :
" خطفتني الحكايات الملونة ، كسرت زجاج الزمن لترميني خارج العالم .. الذهاب إلى سرّ اللون والكلمة والمشهد .. في يوم المكتبة أعودُ صامتاً ، لا أريدُ أن أكلّمَ أحداً ، مكتفياً بالضجيج في داخلي .. والرحلة الغرائبية التي أمضيتها داخل الحكاية والخيال" – ص43.
في القراءة كشف لأسرارِ الوجود المتناهي ، و في الكتابة كشفٌ عن جذورنا الأكثر عمقاً وغوراً وبعداً . وفي سِفر – علي المسعودي ، وبوحهِ الفاتن ، فأنّ الجسدَ والروح والكلمة والفكرة والخيال ، كلها تضيء في وقتٍ واحدٍ .. خليط بديع من الكتابة في الحلم واليقظة معاً .. !
. في " مذكرات طالب حُلم" الكتابة سِفرٌ رشيق الجمل ، وعباراته التي سطتْ على سحر المزامير ، مستفِزّة في إيقاعها الشعري الإنساني الصادم ، وحسب شذراتِ فكر مارسيل بروست " أنْ يكونَ سِفراً دون بداية ولانهاية ، وعلى الكاتب أنْ يحلمَ بهذا السِفر دائمأ" .
ولهذا يشعرُ قاريء " مذكرات طالب حُلم" إنَّ الكتابة – الحلم لم تبدأ بعدُ .. ولمْ تنتهِ أيضاً .. حين يخون الواقع المعيش ويقسو ، ويبدو سريالياً موحياً بالمزيد بما هو يترك وشماً في الروح .. وحين تفيض قهراً تصاريفُ زمنٍ مراوغ ٍ، وتُسنّ قوانين ودساتير لاتمتُ بصلةٍ إلى قدسية روح الإنسان ، ووجوده ، وحريته ، وأحلامه :
" تنبهتُ إلى شيء غريب ، في بطاقة التعريف في الملف قرأت اسمي ، ثمّ كلمة (البادية) أمام خانة الجنسية ، شغلتني الكلمة .. ولمْ أدرِ أنها مكمنُ أسرار وتحولات" – ص49.
. يكتبُ – علي المسعودي حياته، وهو يتفجّرُ نثراً مُستَفِزاً ، والقلمُ جسدهُ المنهك ، والكلماتُ لحمُ روحهِ المتشظية ، ولايعلو على صخبِ كلماتهِ إلاّ صوت واقعه المعيش الغراتئبي ، وهو يصوغ روحه بما بعد الكلمات ، وما فوق الخيال ، وبقدر ما في الحياة من أناسٍ صانعي الفرح ، هناك غيرهم مؤنسنين ، وهم متلفعون بأثواب الظلم والقسوة ، و يطلقون من مدافع أرواحهم الصدئة رصاص حقدهم على صنّاع الحياة والفرح ، وهم برغيف الحلم والأمل .. حين تُحارب الطفولة ، وتُجرّم البراءة ، بموجب أساليب وطرق التعليم والتوجيه البرطريكية البالية ، وهي تربك خطى الإنسان الحالم – الطفل من العيش والتمتع بعطور بساتين الفرح والتفوق :
" رجوتهُ .. استعطفتهُ .. لكنه أصرّ على تنفيذ الأمر .. دخلت غرفة الوكيل .. ومن دون أنْ يوجهَ إليّ أي سؤال ، سحب عصاهُ الطويلة ، أخذ يحركها فتهتز كأنها الجان ، بحفيف مخيف ..
- افتح يدَكَ !
وما إن مددت يدي حتى هوى بسرعةٍ خاطفة وبأقصى قوتهِ" – ص59.
. " مذكرات طالب حُلم" حكي نثري استعادي .. المؤلف هو المتكلم .. هوَ الـ" أنا" التي يُمكن أن تكون "هو" و" الآخرين" أيضاً .. وهو ( يطرحُ نفسه باعتبارهِ ذاتاً ) .. شخص واقعي ، لايقولُ غير الحقيقة ، بل حقيقة الحقيقة ، ولا يسعى إلى الحياة ، بل حياة الحياة ، حقهُ الشرعيّ وفق شرائع كل الأديان والعقائد .. نزيف ذاكرة لم تعُد مكمن ذكريات فحسب ، بل ( عنصر فعّال في تقديمها) – حسب لوجون .. كل مفردة نتاج واقع معيشٍ قاسٍ ، واستخدام المفردة العامية الشعبية الصادمة للتعبير عن أعمق ما يحسّ بهِ الكاتب ، لا ليثير ويستفز ويوجع فحسب ، بل ليراوغ الواقعَ ، والتفوق عليه تارة بالدمع الحجريّ ، وتارة أخرى بالضحكةِ الساخرةِ .. لاتخلو مواجهة الواقع الشجاعة أيضاً من تعبيرٍ موحٍ عالٍ ، مقتصدٍ في لغته ، تدفقٌ شعري – نثري نزيف قريحة صافية ، في إيقاع وظلال حكمةٍ بليغةٍ أحياناً :
" الجبان يخاف صوت الأهازيج .. فيقتلع الحنجرة !
يرعبهُ الرسام .. فيكسر أصابعه !
الجبان لايحبّ صوت الأذان .. فيقصف المأذنة !
يفزعهُ دعاء الخاشعين .. فيمنع الصلاة !
يقتلُ بعنف ، وبرغم ذلك هو متهالك من الداخل .. خائن ذليل " – ص65.
. " مذكرات طالب حُلم" والكتابة إشعارٌ بالحياة .. إشعارٌ بالحُلمِ .. وإشعارٌ بالحرية ..!!
هاجسٌ عالي الإيقاع للبحث عنهم مجتمعين ، وسواهم لايُمثّلُ شيئاً .. والحياة والحُلم والحرية الأقانيم الثلاثة شكلٌ راقٍ من أشكال الحبّ والرغبة اللذين " يشكلانِ أولَ محرّك لوجودنا في كلّ المجالات " – حسب تعبير ميشيل إيلتشانينوف .. !
ألألفة والبساطة سمةُ الإنسان الطموح الذي يزرعُ الأمل ، ويصنع الحياة .. والعفوية والتلقائية عنوانُ المكان الذي نشأ وترعرع فيه الكاتب ، وهويرضع حليب الألفة والبساطة والتواد دستور ساكنيه :
" بيوت بسيطة .. بلا أضواء .. حوت أجمل أيام العمر .. الأنس لايسكنُ فقط في القصور" – ص77.
." مذكرات طالب حُلم" بئرُ عاطفة دافق ، لاسلطان عليها ، أقواها وأعمقها حبّ المكان ، والتعلق بهِ ، بداية الحُلم ، ومزرعة الأمل ، وهي تثمرُ على دفء شمسٍ بعيدة ، وفق حكمة الكلمات ، وهي بذاكرة موصولة بذاكرة القلب ، حروفها وجملها ونغمها خالد موصول بعزف الجسد ، وسحر اللحظات في ذلك المكان وتضاريسه ترواغ المواسم ، وتكون عنوان الفصول :
" كانَ العام الدراسي يوشك على نهايته .. وحيث ذهبت إلى بيتنا ، فوجدت جرافة البلدية قدْ سوّتهُ بالأرض ، لأنَّ الدولة قررت أن تنهي مشكلة مدن الصفيح .. لمْ يشعر موظفو البلدية وهم يجرفون البيت ، بأنَّ الطفل هو الذي كان يتهدم" – ص84.
هذا النزيف النستولوجي الذي تفيضُ بهِ روح وجسد وذاكرة معاً ، هو صورة فوتوغرافية للواقع المعيش بين الماضي الجميل رغم قساوته ، وهو حسب تعبيربورخيس " أجلّ الأزمنة ، والحاضر والمستقبل يذهبان لهُ" .. وبين الحاضر المرتبك الغامض الحذر ، وأخلاقيات وسلوكيات قد لوّنت وجوهَ الناس ، وغيّرت في قراءة الزمن والمكان والحياة :
" كانَ الزمن أنظف بكثير منهُ الآن .. ظهر الفسادُ في البر والبحر ، بما كسبت أيدي الناس" – ص94.
وبوحُ البوح في " مذكرات طالب حُلم" تجاوز كلّ تقيات التاريخ ، وتداعيات الرواة ، وهو يجسّد صورة المكان ، في بورتريه يذكر بذلك الزمان الذي مضى بكل عذاباتهِ ومفارقاته .. بل وتجاوز كل فنون البلاغة ، واللهو بالاستعارات في كتابةِ ذاتٍ طموح ٍ، هي فصلُ من كتاب الحياة ولكي " تكتب عن الحياة ، يجب أن تعيشها" برؤى – همنغواي .. وعلي المسعودي قد عاش الحياة ، وجسّدها بكل أبجديات المرارة والألم والحلم معاً .. تارةً عتاب شفيف على المكان ، وتارة أخرى شتائم ملائكية تطارد الزمان ، وهو يصبّ جام غضبهِ على بشرٍ فاقوا في عدوانيتهم وخبثم ما يدور بذاكرة الشياطين ، بشرٌ مؤنسنون زيفاً ، وهم لم يقتلوا الوحشَ الذي في دواخلهم ، وحسب فلسفة هوبز : " ليس الإنسان سوى ذئب تجاه أخيه الإنسان" :
" رأيت في الحياة مَنْ يقطّعون لحوم البشر ، ورأيت فيما بعد أظفاراً طويلة أنيقة ملونة تنهشُ الوجوه" – ص101.
. حسب الفلسفة الكلاسيكية فأنَّ ( الحسّ السليم ، هي السمة المميزة للكائن البشري ) .. والحسّ في (مذكرات طالب حلم) في أعمق صورهِ ، أعظم الخوف من الفقر الذي بدا بفقهِ الحياة ، كارتكاب ذنبٍ عظيم ٍ، وشاطيء المغفرة بعيد .. وبعيد جداً :
" لكني لا أريد لأحدٍ أنْ يعرفَ أنني أسكنُ في الصحراء !
فكرتُ بسرعة ، أن أقولَ لهُ يوصلني إلى آخر منطقة الكوريات .. أوهمهُ أنَّ بيتي هناك ، لكنهُ كانَ مصرّاً أنْ يوصلني إلى البيت .. إلى أن توقف أمام البيت .. حجرات الخشب المسورة بالصفيح" – ص103.
. القراءة حُلمٌ متلوّ بيقظة .. والكتابة ( أمّ الحكمة) حسب المثيولوجيا السومرية ..!
وعلي المسعودي الكاتب – الناصّ أحد المبدعين الحالمين .. وانجذابه للسرد منذ نعومة أظفاره ، وطزاجة ذاكرته ، وهو يصغي بكل جسدهِ لإيقاعاتِ قريحته ، وذبذبات كهربة أصابعه .. جعلَ من الكتابة أجمل ورطة ، تورّط بها ، أو تورطت بهِ لا فرق ، تحرشٌ بالورقةِ متبادل " ما دامت الكتابة المنقذ الوحيد من ضغوطات الكآبة والإحباط" على حدّ قول البارونة الدنماركية – كارين بليكس .. وهو ممّن يدمنون (القراءة الحفر) حسب تعبير صديقنا الروائي الكبير إبراهيم الكوني الذي يقدم نفسه دائماً كـ" قارض كتب" أو " فأر كتب" ، موصول بعبارة " الكتابة الحفر" تعبير الكاتبة – آسيا جبار ، وكلتاهما صفتنان مائزتان للكاتب الجاد والمثابر :
" عرفت أنَّ الكتابة في الحفظ والفهم ، ومنذ ذلك الوقت ، لا أعرف قراءة كتاب دون أن يكون في يدي قلم ، أضع خطوطاً تحت بعض الجمل ، أعيد كتابة بعض العبارات ، وأدون بعض الملاحظات .. فليست الكتابة وحدها تتم بالقلم ، بلْ القراءة أيضاً تتمُ بالقلم" – ص109.
وكانت الصحافة أولَ مغامرةٍ في عالم الكتابة – الحياة ، والحياة – الكتابة ، لمقاومة مفارقات الزمن ، وسنوات الكاتب – الذات الباحثة عن ذاتها ، تدورُ كدوران الأسطوانات في الفونوغراف .. والصحافة الطريق المضيء أمام الكاتب إلى فنون الكتابة والسرد ، انطلاقاً من تربة ذاكرة شبيه بالذاكرة المشرقة للحاسوب ، واستلهام أفكار ورؤى إنسانية ماطرة من سحابة اللاوعي :
" كنتُ قد شغفت بعالم الإعلام .. وعرفت أسماء الصحافيين في الجرائد اليومية ، وأساليبهم فالتحقت بالصحافة" – ص138.
وبمثابرة أسطورية للذات الطموح ، وبصبر الإنسان الذي لايبدو يسوعاً في هذا العالم – حسب تعبير هنري ميللر ، بل إمبراطور صبرٍ وكفاحٍ وصمود من أجل النجاح في العمل والدراسة والالتزام المجتمعي – العائلي ، ورغيفهُ الأمل والحلم ، طريقان لحياة أفضل وأرقى وأكثر أماناً واستقراراً وسعادة .
:" ما بين العمل كمدير لقناة الريان التي تتوسط سوق واقف في الدوحة ، والدراسة والأسرة مع رحلات خاطفة بين أبو ظبي حيث أرأس تحرير مجلة شاعر المليون ، والكويت حيث الأهل .. هكذا تحدّد برنامج حياتي اليومي" – ص151.
. الكاتب الكبير علي المسعودي في ( مذكرات طالب حلم) والكتابة خلاصة ( جرح سريّ ) .. في أسلوبٍ شائقٍ مانحٍ ، ليس سوى صوتٍ في ذبذبات موقظة : أنا أكتب ذاتي .. حياتي .. عالمي الحقيقيّ .. وواقعي المعيش .. واقع مميت قاتل ، وأبسط تعريف لهُ لديه" مالايقتلني يجعلني أقوى" حسب نيتشة .. معاناة تلدُ المعاناة ، فيها يتكلم حتى الصمت ، وهو يتفوّهُ بأيّ شيء .. المعاناة درس محفور على سبورة الواقع والوقت معاً ، ومفرداتهُ بمذاق لايُستطعم إلا بالألم والأمل معاً .. بالكتابة – الحفر .
علي المسعودي في كتابهِ ( مذكرات طالب حُلم) يحفرُ على الورق صورة ذاته المكهربة بالمعاناة ،والهموم التي بدت لها أنياب ، وفي الوقت نفسه يضع تعريفاً خالداً للحلم والأمل ، كمخلوقين ملائكيين ، لايمكن سجنهما أو قمعهما .. بارع في كتابة حياتهِ ، وهو يسطو سلمياً على كيمياء السرد – النثر الخرافي ، وحسب د. جونسون " لايوجد مَن هو أقدر على كتابة حياة المرء من المرءِ نفسه" .. وطبقاً لأخيلة بروست فأنَّ " كلّ ساعة في الماضي محفورة على الجبين" ..!
. " أكتبُ كما لو أنني أنقذ حياة َشخصٍ آخر ، من الممكنِ أنها حياتي أنا" – كلاريس ليسبكتور !
وعلي المسعودي في ( مذكرات طالب حلم) يكتبُ وينكتبُ في الآن ، ينقذ نفسه وينقذ شخصاً آخر شبيهه ، ولا يملك القدرة على الاختيار .. الكتابة لديه نبض ودمٌ وهوس ، أقوى من الخوف والموت والانتظار.. يكتبُ لا ليغازل الواقع أو يراوغه ، أو يختار طرقاً للهروب منه .. ولا ليستهين بالزمن أو ينغمهُ شعرياً ، بلْ ليحاكمهما معاً ببلاغة لا تعرف جملها الخواء ..!!علي المسعودي يضعُ الحقيقة في كلمات ..!! لا ليوقظ ، إنما ليحلُم .. بل ليؤسسَ للحلمِ ، طريقته الوحيدة للحفاظ على ذاكرةٍ مهددةٍ بصواعق ِالنسيانِ والمجهول..!!